فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضًا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113] وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال: {وارزقنا} وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله: {وارزقنا} لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال: {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} فقوله: {رَبَّنَا} ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله: {أُنزِلَ عَلَيْنَا} انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لاِوَّلِنَا وآخرنا} إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله: {وآية منك} إشارة إلى كون هذه المائدة دليلًا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله: {وارزقنا} إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال.
فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلًا إلى الأدون فالأدون.
ثم قال: {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}.
شَتَّان بين أمة طلب لهم نبيُّهم سكونًا بإنزال المائدة عليهم، وبين أمة بدأهم- سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
وقال في صفتهم: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
وفَرْقٌ بين مَنْ زيادةُ إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تُبَاحُ لهم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا}.
وقوله الحق: {مَائِدَةً مِّنَ السماء} إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض. والكون كلمة مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح.
والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ الزوجة طيرًا فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات.
إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة {مائدة} لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها «خوانًا»؛ لأن «المائدة» مأخوذة من مادة «الميم والألف والدال» والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المُعْطَي.
وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين.
والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج. أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه.
إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى؛ لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول: {اللهم ربنا} و{اللهم} هي في الأصل «يا الله»، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت: «اللهم». وكأن هذا اللفظ: «اللهم» تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء.
إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية: «اللهم» فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما تجليات كلمة «رب» فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد.
والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه المتولي للتربية للأجسام والعقول والمواهب والقلوب، والرب هو رب للمؤمن وللكافر. ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية. فسبحانه يربي الماديات التي تقيم حياته.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].
والحق سبحانه يبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عمن خلق السموات والأرض، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم: إن الله هو الخالق. وهي إجابة الفطرة الأولى. ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك- ولله المثل الأعلى- عندما يسأل الأطفال عن شيء من الذي أحضره؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي كل شيء هو الله، فإن سأل الطفل أمه: ماذا سنأكل؟ وتجيب الأم- على سبيل المثال- سنأكل بامية مثلًا. ويسأل الطفل: من أين؟ تجيب الأم: اشتراها والدك من بائع الخضر. ويسأل الطفل: ومن أين جاء بها بائع الخضر؟ تقول: الأم. من تاجر في السوق. يسأل الطفل: ومن أين جاء بها التاجر؟ تجيب الأم: من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها بذور البامية. يقول الطفل: من الذي خلق الأرض وأنبت النبات؟ تقول الأم: إنه الله ربنا خالق كل شيء.
لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوفي فيه المؤمن والكافر، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضًا، وهو التكليف. فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافًا إليه العطاء الذي لا ينفذ، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه، ويأخذ المؤمن بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله.
لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله: {اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السماء} وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولًا معترفًا بالعبودية لله ملتزمًا بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية. فيا من أنزلت علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء. وأخذ نداءه زاوية القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق، لكن الحواريين قدموا بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا: {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولًا فقد أخر الطعام عن القيم فقال: {اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين}.
صحيح أن الرزق يمس الأكل، ولكن الرزق ليس كله أكلًا. فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه وتنتفع به، فالأكل رزق، والشرب رزق، والملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسع لغيره. ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم: {قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{اللَّهُمَّ رَبَّنَا} تقدَّم الكلامُ عليه، قوله: {ربَّنا} نِدَاءٌ ثاني.
قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا}: في {تَكُونُ} ضمير يعود على {مَائِدَة} هو اسمُها، وفي الخبر احتمالان:
أظهرهما: أنه عيد، و{لَنَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من {عِيدًا}؛ لأنها صفة له في الأصل.
والثاني: أنها حال من ضمير {تَكُونُ} عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالها في الحال.
والوجه الثاني: أنَّ {لَنَا} هو الخبر، و{عِيدًا} حال: إمَّا من ضمير {تَكُونُ} عند مَنْ يَرَى ذلك، وإمَّا من الضمير في {لَنَا}، لأنه وقع خبرًا فتحمَّل ضميرًا، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ صفةً لمائدة.
وقرأ عبدُ الله: {تَكُنْ} بالجزمِ على جوابِ الأمرِ في قوله: {أنْزَلَ}، قال الزمخشري رحمه الله: «وهما نظيرُ {يَرِثُنِيَ} وَيَرِثُ» يريد قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] بالرفع صفةً، وبالجزم جوابًا، ولكن القراءتان هناك متواترتان، والجزمُ هنا في الشاذ.